"بابل" رؤية سينمائية لحوار الثقافاتإدريس الروخ في لقطة مطاردة بوليسية في الفيلم
لا تنقصنا الموهبة المغربية كي نبدع أفلاما سينمائية ذات كعب عال، ولا ينقصنا الرصيد السينمائي الثري بالأفلام التي نالت شهادات الاستحقاق في المهرجانات السينمائية العالمية. لكننا نحتاج فقط إلى مخرجين مبدعين يستثمرون هذه الطاقات الخارقة في التمثيل، وهذا الديكور الطبيعي الشاسع. والفيلم السينمائي العالمي بابل دليل على أن المغرب قارة سينمائية لم يكتشفها مخرجونا بعد.
ما نحتاجه فعلا هو لمسة فنية مثل لمسة المخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليس إنياريتو، وكيف صنعت من ممثلين مغاربة يلعب أغلبهم أولى أدوارهم السينمائية... ومن شاهد إدريس الروخ والطفل المراكشي سعيد الكرشاني وهو في يقف وجها لوجه أمام الكاميرا لأول مرة، وأمام المخرج، وأي مخرج إنه أليخاندرو غونزاليس إيناريتو مبدع الرائعتين السينمائيتين (grammes 21 ) و(، (amours chiennesيدرك كيف أخرج منهما شيطان الممثل في فيلمه الأخير بابل الذي صور جزء عظيم من أحداثه بالمغرب.
هذه العين المكسيكية السينمائية العاشقة لسحر الطبيعة المغربية لن تنسى صفاء الفضاء الطبيعي المغربي وزرقة سمائه ونتوءات جباله ولمعان رماله وسحنات سكانه التي لفحتها شرارات شمس الصحراء. لقد ظل امتداد الصحراء وسمو الجبال المغربية صورتين لم تكد تفارقان خيال أليخاندرو غونزاليس ( 45 عاما) منذ أول رحلة زار فيها المغرب وهو ابن 17 ربيعا.. ومنذ ذلك التاريخ وهو يختزن في ذاكرته هذه الفضاءات بإكسسواراتها الطبيعية، ويحلم أن يصور في يوم ما فيلما وسط أحراش الجبال، وبين قصور تازارين الطينية، ورمال أرفود الحالمة... في شهر ماي 2005 تحقق حلم أليخاندرو غونزاليس، واستطاع أن يضع عدساته اللاقطة على الأرض التي تمنى أن يصور فيها ثالث روائعه السينمائية بابل
يمتلك المخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليس إيناريتو طريقة متميزة في الإخراج السينمائي، وأفلامه الثلاثة تكاد تتشابه على مستوى أسلوب السرد السينمائي، معتمدا على خلط المشاهد والأزمنة والحكايات في افتعال وتعمد يجعل المشاهد أمام مشاريع قصص/أفلام قصيرة متوازية، تربطها نواة سردية هي الماء السري الذي يلحم هذه المشاهد المتنافرة والمتباعدة زمانا ومكانا. هذه الفوضى المنظمة هي طريقة أليخاندرو في الإخراج السينمائي لتصوير جموح عواطف شخصياته ورقتها وتركيباتها النفسية المعقدة.
أحداث الفيلم تتقاسمها ثلاثة مواقع مختلفة هي المكسيك واليابان والمغرب. وكان طبيعيا، حسب اختلاف مواقع التصوير، أن ينساب الحوار بلغة المكان الذي صورت فيه المشاهد، فجاء الفيلم ناطقا بأربع لغات هي الإسبانية والإنجليزية والعربية واليابانية، مجسدا نوعا من الحوار الثقافي بين عوالم مفصولة حضارة ولغة وعرقا ودينا، لكنها تقتسم المصير نفسه والقدر نفسه..
تنطلق أحداث الفيلم من المغرب من خلال إطلاق رصاصة طائشة من بندقية صيد أصابت سائحة فرنسية كانت راكبة على متن حافلة ركاب مارة أسفل منحدر جبلي. الطفل المغربي الذي كان يلهو ببندقية الصيد مع أخيه في المرعى الجبلي، لم يكن يحسب أن هذه الرصاصة الطائشة ستقود إلى أحداث مأساوية لا تكتفي بقتل أخيه أثناء مطاردة بوليسية والاتهام الأمريكي للمغرب بالإرهاب، بل ستكون شرارة لانطلاق مآس جديدة حول العالم، متنقلة من المغرب إلى المكسيك وصولا إلى اليابان... وعلى مدار الفيلم تراوح مد وجزر الأحداث بين هذه المواقع الثلاثة من خلال متتاليات سردية متفاوتة في الزمن بتقنية عالية، دون الوقوع في فخ التصوير الفولكلوري للمغرب، إلى درجة لم يشعر معها المشاهد بمركب نقص بين الشخصيات المغربية وباقي الشخصيات الأخرى. لقد اختلق أليخاندرو غونزاليس شخصياته من سياقها الثقافي والواقعي والإنساني، لذلك جاءت انفعالاتها عفوية وتلقائية، لذا لا نستغرب من وقوف إدريس الروخ ندا للند أمام الممثل العالمي براد بيت، بل كانت جميع شخصيات أليخاندرو على مستوى واحد من الدينامية والحضور الذهني والنفسي، حتى كاد المشاهد أن يصدق أن البطل ليس هو براد بيت أو غيل غارسيا برنال، والبطلة ليست هي كيت بلانشيت. باستثناء هؤلاء الأبطال الثلاثة، فضل المخرج أن يستغني عن إجراء كاستينغ بالمعنى المهني، أي اعتمادا على ممثلين هواة ليست لديهم خبرة طويلة في المجال السينمائي. وفي الجانب المغربي، باستثناء مشاركة إدريس الروخ في دور ضابط شرطة، مختلف الوجوه الأخرى المشاركة في الفيلم من أبناء المنطقة، ومعظمهم يشاركون لأول مرة. ولعل المخرج كان يدرك أن هذا الاختيار رغم ما يحمله من مخاطرة، يضفي واقعية على شخصيات الفيلم. فقد كان حدس أليخاندرو صادقا من خلال بحثه عن سحنات سمراء نحتتها الشمس لا يمكن أن يعثر عليها بين وجوه الممثلين المحترفين المكتنزة. فنودي في النهاية على أبناء القرى الصحراوية والجبلية لإجراء الكاستينغ عبر مكبرات الصوت من المساجد. وحقا من شاهد الممثلين المغاربة المغمورين كيف أبدعوا، يدرك أن أليخاندرو كان يملك رؤية فنية ثاقبة، وهو بذلك قدم درسا للمخرجين المغاربة في فن الكاستينغ والثقة في الموهبة المغربية التي لا تنقصها إلا عين لاقطة للجمال، ولمسة فنية تحول الصخر حريرا..